الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)
فلما حضر القضاة إلى دار العدل على العادة لم يؤذن لهم في دخوله، وعندما نزلوا بعث السلطان إلى القزويني مع الدوادار بأن نائب الشام شكا من ابن المجد قاضي دمشق، وقد اقتضى رأية أن تسافر إلى دمشق قاضياً، كما كنت، فإنه استحى وجهه منك ومن الأمراء والناس، وكلما عرفك أن ترجع ابنك عما هو عليه لا ترجعه فإذا حضرت بدار العدل استعف من القضاء بحضرة الأمراء. واعلم أني آمر نائب الشام أنه إذا رأى أولادك على سيرة مرضية قابلهم بما يستحقونه.فلما كان يوم الخميس: وحضر قاضي القضاة القزويني دار العدل، سأل الحاجب أن يسأل له السلطان في تمكينه من التوجه إلى دمشق، فإن مصر لم توافقه ولا وافقت أهله، فأذن له السلطان في ذلك. ونزل القزويني فأخذ في وفاء دينه، وكان عليه لجهة وقف التربة الأشرفية المجاورة لمشهد السيدة نفيسة مبلغ مائتي ألف درهم وثلاثين ألف درهم فباع أملاكه وأملاك أولاده وأثاثهم وتحفهم بربع ثمنها، وكانت نفيسة. فباعوا من صنف الأواني الصيني بمبلغ أربعين ألف درهم، وباع عبدالله إحدى عشرة جارية ما بين ثمانية ألاف درهم الجارية إلى أربعة ألاف، وباع من اللؤلؤ والجواهر والزركش ما قيمته زيادة على مائة وعشرين ألف درهم، وباع داره بالقاهرة بخمسة وثلاثين ألف درهم وأدوا ما عليهم من الدين للأيتام وغيرهم. وسار قاضي القضاة بأهله وأولاده إلى دمشق، وصحبته ستون زوج محاير على الجمال، في كل محارة امرأة. وتأسف الناس على فراقه، لمحبتهم له مع بغضهم لأولاده، فإنه كان كريماً جواداً سخياً، له صدقات ومراعاة لأرباب البيوت، يهب الألف درهم، ولم يعرف في دولة الأتراك بمصر قاض له مثل سعادته، ولا مثل حظوته من السلطان وقوة حرمته، وكان سفره في جمادى الآخرة.وفي يوم الأحد ثامن عشره: استدعى عز الدين عبد العزيز ابن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعي وخلع عليه، واستقر قاضي القضاة عوضاً عن الجلال القزويني. وكان السلطان قد جمع بين يديه القضاة والفقهاء وفيهم عز الدين وحدثهم فيمن يصلح للقضاء، وقد تعين عندهم شمس الدين محمد بن عدلان. فلم يلتفت إليه السلطان، وذكر لهم عز الدين فأثنوا عليه خيراً. وكان السلطان من أيام بدر الدين محمد بن جماعة يلهج بذكر ابنه عز الدين، ويقول: لولا أنه شاب لوليته القضاء.وخلع فيه أيضاً على حسام الدين الحسن بن محمد الغوري القادم من بغداد، واستقر في قضاء القضاة الحنفية، عوضاً عن برهان الدين إبراهيم بن علي بن عبد الحق، ونزلا في موكب جليل. وكان سبب عزل ابن عبد الحق أولاده، فإنهم ساروا سيرة أولاد القزويني، فكان السلطان يقول: ولينا قضاة جياداً أفسدهم، ورسم بسفر ابن عبد الحق وأولاده أيضاً إلى الشام، فسافروا. وكانت قد وقعت الشكوى في ابن القاضي الحنبلي من بيعه أوقاف الأيتام وأخذ أثمانها، وإتلافه في المحرمات، فطلب والده تقي الدين أحمد بن عز الدين عمر بن محمد المقدس وسئل عن مال الأوقاف التي باعها، فاعتذر بما لا يقبل، وسأل المهلة. فأمر السلطان متولي القاهرة بتسليمه وضربه حتى يحضر المال جميعه، فأهانه ورسم عليه. وأخذ السلطان يقول للأمراء. انظر ماذا جرى علينا من أولاد القضاة، وذكر ابن القاضي الحنبلي وما كان منه، وهم أن يوقع به وبابنه المكروه، فتلطفوا به في أمرهما. والستر على القاضي لكبر سنه وشهرته. فعين الأمير جنكلي بن البابا لولاية الحنابلة موفق الدين عبدالله بن محمد بن عبد الملك المقدسي فطلبه السلطان وخلع عليه مع رفيقه.وفي يوم الإثنين ثاسع عشره: طلع القضاة الأربعة وقبلوا يد السلطان، واستأذن قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة الشافعي في عزل نواب الحكم، فإنهم جيعهم إنما ولوا ببذلهم المال الجزيل لولد القزوين وأنهم قد أفسدوا في الأعمال فساداً كبيراً، فأجابه السلطان بأن يفعل ما فيه خلاصه من الله تعالى. فنزل ابن جماعة وكتب بعزل قضاة الوجه القبلي والبحري بأسرهم، وعزل فخر الدين محمد بن محمد بن مسكين من نيابة الحكم بمصر، وولي عرضه بهاء الدين عبد الله بن عقيل، وعين لقضاء الأعمال جماعة ممن وقع اختياره عليهم، فلم يجسر أحد على معارضته ولا مخالفته، واستخلف عنه في القضاء تاج الدين محمد بن إسحاق المناوي وضياء الدين محمد بن إبراهيم المناوي، وعزل الضياء المحتسب من نظر الأوقاف حتى لم يدع أحداً بالقاهرة ومصر وأعمالها ممن ولاه القزويني. فانكف عن الناس بدلك شر كبير وفساد كثير. وسار رفقاؤه الحنفي والحنبلي مثل سيرته في النزاهة والصيانة.وفيها فوض نظر الوقف الشافعي للشيخ برهان الدين إبراهيم الصائغ.وعقيب ذلك قدم البريد من الشام بألفين وخمسمائة دينار من وقف الأشرفية. فأخذها النشو وعرف السلطان بها، وأنه تعوض عنها لجهة الوقف فيما بعد فأخذها السلطان منه.وفيها جمع النشو الطحانين وعرفاء الجمالة، وطرح عليهم ما زرع بناحية قليوب من الفول الأخضر والبرسيم، بحساب ثلاثمائة درهم الفدان الفول، والبرسيم بمائتي درهم، وضرب جماعه منهم بالمقارع، لأجل شكواهم إياه للسلطان. وطرح النشو مبلغ مائتي ألف درهم فلوساً نحساً ضرب إسكندرية وتروجة وفوة وبلاد الصعيد على التجار وأرباب المعاملات، فوقفت الأحوال. وذلك أن الفلوس كانت تؤخذ بالعدد، وقد كثر فيها الزغل من الرصاص ونحوه، وصار الفلس الكبير يقص ثلاث قطع ويخرج بثلاثة فلوس، فصارت الباعة تردها، وتحسن سعر الغلة دراهم الأردب. فقام والي القاهرة في ذلك وضرب جماعة ونودي أن يرد الفلس المقصوص والرصاص، ولا يتعامل به، فمشت الأحوال.وفيه قدم البريد من الأمير تنكز نائب الشام. ومعه مبلغ عشرين ألف دينار الذي أخذ من علم الدين بن القطب كاتب السر بدمشق، فخلع السلطان على جمال الدين عبد الله بن الكمال محمد بن العماد إسماعيل بن الأثير، واستقر في كتابة السر بدمشق عوضاً عن ابن القطب.وفيها اتفق بدمشق أن قاضيها شهاب الدين محمد بن المجد عبد الله بن الحسين بن علي الأربلي كان غير مرضي الطريقة، فلما عزل واستقر القزويني عوضه، ركب ابن المجد قبل أن يبلغه العزل يريد مكاناً، فنقرت بغلته من كلب خرج عليها في الطريق، وألقته عن ظهرها، فاندق عنقه، وسر الناس بذلك.وفيها عزل الضياء من حسبة القاهرة، بسعاية النشو به ورميه له بمحبة الأحداث، وخلع على الشريف شرف الدين علي بن حسين بن محمد نقيب الأشراف، واستقر عوضه، بعدما أقامت القاهرة أياماً بغير محتسب.وفيها أفرج عن الأمير آقسنقر شاد العمائر من حبسه بحلب، وأنعم عليه بطلبخاناه في دمشق، بعناية الأمير قوصون.وفيها قدم البريد بأن جبار بن مهنا توجه في جماعته إلى بلاد الشرق، وصار في جملة الشيخ حسن الكبير، بسبب أنه لما قدم بهديته إلى السلطان لم يجد منه إقبالاً فكتب إلا إخوته بترجيعه إلى البلاد.وفيها قدم البريد بأن الشيخ حسن الكبير قد جمع العساكر لمحاربة أرتنا صاحب بلاد الروم، وأن جبار بن مهنا التزم له بجمع العرب، وأنه كتب له تقليداً بالإمرة على العرب. فقدم بعد ذلك كتاب أرتنا ومعه هدية، ويسأل فيه أن يكون نائب السلطان في بلاد الروم، وأنه يضرب السكة باسمه، ويقيم دعوته على منابره. فخلع على رسله وأنعم عليهم، وكتب له تقليد بنيابة الروم من انشاء الشريف شهاب الدين الحسين ابن قاضي العسكر. وكان الحامل لابن أرتنا على ذلك أنه عظم شأنه ببلاد الروم، وكثف جمعه حتى خافه الشيخ حسن الكبير أن ينفرد بمملكة الروم، فأخذ في التأهب لمحاربته. وكان ابن دلغادر قد تمكن بأراضي أبلستين، وكثرت زراعاته بها، وأخذ يتخطف من أطراف الروم، فخشى أرتنا منه أن ينازعه في مملكة الروم، أو يكون مع الشيخ حسن الكبير فرأى الاتجاه إلى السلطان أقوى له وأسلم، فإنه إما يمده بعسكر يتقوى به على أهل الشرق، أو يأوي إلى بلاده إن انهزم.وفيها بلغ النشو أن الناس يجتمعون إلى الوعاظ بالجامع الأزهر وجامع الحاكم وغير ذلك، ويدعون الله عليه. فلم يزل النشو بالسلطان حتى منع الوعاظ بأجمعهم من الوعظ، وأخرج رجلاً كردياً كان للناس فيه اعتقاد إلى الشام.وفيها قدم المجد السلامي من الشرق صحبة رسل الشيخ حسن الكبير باستدعاء السلطان له، وقد كلفه الشيخ أن يقوم له بالصلح بينه وبين السلطان، وجهز معه هدية جليلة.وفيها قدم ناصر الدين خليفة بن خواجا علي شاه وزير أبي سعيد، فأكرمه السلطالن وأنعم عليه، وأخرج له راتباً بدمشق، ثم أنعم عليه بتقدمة ألف بها، عوضاً عن برسبغا العادل وأنعم على برسبغا بتقدمة آقول الحاجب بعد موته.وفيها ندب النشو أحد مباشري العمائر السلطانية لمرافعة الأمير آقبغا عبد الواحد، فأنهى للسلطان عنه أنه عمر جميع عمائر من مال السلطان، وثبت لمحاققته، فلم يجد آقبغا جواباً.وفيها استقر الأمير أخو ظلظية في كشف الوجه البحري عوضاً عن الأمير سيف الدين أبي بكر بن سليمان البابيري وأخرج البابيري إلى دمشق بطلب الأمير تنكز له، وكانت إقامته في كشف الوجه البحري سنة، سار فيها سيرة سيئه.وفي ليلة الإثنين ثاني عشرى ربيع الآخر: سقط بمصر والقاهرة مطر عظيم مدة ستة أيام، فتهدم منه عدة أماكن، وسال الجبل وأعقب المطر رياحاً عاصفة، واشتد البرد بخلاف العادة، وسقط الثلج بسبخة بردويل حتى جهلت الطريق، وسقط بمصر ثلج كثير وحصا فيه ما يزن ستة عشر درهماً وأكثر إلى ثمانية وعشرين درهماً. واشتد الريح بناحية دمياط في بحر الملح حتى غلب على النيل، ووصل الماء إلى شار مساح وفارس كور.وفيها كثر تسخير الناس للعمل في عمائر السلطان بالقلعة، وقبض عليهم من بين القصرين وهم نيام، ومن أبواب الجوامع عند خروحهم من صلاة الصبح، فابتلي من ذلك ببلاء عظيم، وكثرت الغاثة، فلم يجسر أحد من الأمراء يكلم السلطان فيه.وفي يوم الإثنين رابعه: خلع علي علاء الدين علي بن محيي الدين يحيى بن فضل الله، واستقر في كتابة السر عوضاً عن أبيه بعد وفاته، وركب معه الحاجب أمير مسعود والدواداو طاجار إلى داره.وفي ثاني عشرى رمضان: قدمت الحرة بنت السلطان أبي الحسن علي بن عثمان ابن يعقوب المريني صاحب فاس تريد الحج، ومعها جمع كبير وهدية جليلة إلى الغاية، نزل لحملها من الإسطبل السلطاني ثلاثون قطاراً من بغال النقل سوى الجمال، وكان من جملتها أربعمائة فرس منها مائة حجرة ومائة فحل ومائتان بغل، وجميعها بسروج ولجم مسقطة بالذهب والفضة، وبعضها سروجها وركبها من الذهب وكذلك لجمها، وكان جملتها أيضاً أبقار عدتها اثنان وأربعون رأساً، ومنها سرجان من ذهب مرصع بجوهر، وفيها اثنان وثلاثون بازاً، وفيها سيف قرابه من ذهب مرصع، وحياصة ذهب مرصع، وفيها ستمائة كساء وغير دلك من القماش الغالي. وكان قد خرج المهمندار إلى لقائهم، وأنزلهم بالقرافة قرب مسجد الفتح، وهم جمع كبير جداً. وكان يوم طلوع الهدية من الأيام المذكورة، ففرق السلطان الهدية على الأمراء بأسرهم على قدر مراتبهم حتى نفدت كلها، سوى الجوهر واللؤلؤ، فإنه اختص به فقدرت قيمة هذه الهدية بما يزيد على مائة ألف دينار.ثم نقلت الحرة إلى الميدان بمن معها، ورتب لها من الغنم والدجاج والسكر والحلوى والفاكهة في كل يوم بكرة وعشية ما عمهم وفضل عنهم. فكان مرتبهم في كل يوم عدة ثلاثين رأساً من الغنم، ونصف أردب أرزاً، وقنطار حب رمان، وربع قنطار سكراً، وثماني فانوسيات شمع، وتوابل الطعام وحمل إليها برسم النفقة مبلغ خمسة وسبعين ألف درهم، وكانت أجرة حمل أثقال ركبها قد بلغت ستين ألف درهم. ثم خلع على جميع من قدم مع الحرة، فكانت عدة الخلع مائتين وعشرين خلعة على قدر طبقاتهم، حتى على الرجال الذين قادوا الخيول. وحمل إلى الحرة من الكسوة ما يجل قدره، وقيل لها أن تملي ما يحتاج إليه، فقالت إنه لا يعوزها شيء، إنما تريد عناية السلطان بإكرامها وإكرام من معها حيث كانوا.فتقدم السلطان إلى النشو والي الأمير آقبغا بتجهيزها اللائق بها، فقاما بذلك، واستخدما لها السقائين والضوية، وهيئا كل ما تحتاج إليه في سفرها من أصناف الحلوى والسكر والدقيق والبشماط، وطلبا الجمالة لحل جهازها وأزودتها. وندب السلطان معها جمال الدين متولي الجيزة، وأمره أن يرحل بها في ركب لها بمفردها قدام المحمل، ويمتثل كل ما تأمر به، وكتب لأميري مكة والمدينة بخدمتها أتم خدمة.وفيه تجهز الأمير بشتاك، والأمير ألطنبغا المارديني وخوند طغاي زوجة السلطان وست حدق، وعدة من الدور ومن الخدام، لسفر الحجاز.وفيه قرر الأمير علم الدين سنجر الجاولي شهاب الدين أحمد العسجدي في تدريس الحديث بالقبه المنصورية بين القصرين، بعد وفاة زين الدين عمر بن الكتاني. فتعصب عليه القضاة وجماعة من شيوخ العلم، وطعنوا في أهليته، ورفعوا قصة للسلطان بالقدح فيه. فلما قرئت على السلطان بدار العدل سأل السلطان من القضاة عنه، فثلبه قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة، فقام الجاولي بمعارضة القاصي وأثنى عليه، فرسم السلطان أن يعقد له مجلس ويطالع بأمره. فاجتمع القضاة وكثير من الفقهاء بالمدرسه المنصورية، وجبه بعضهم الجاولي بالغض من العسجدي ورماه ركن الدين محمد بن محمد بن القوبع بأنه لحن في قراءة الفاتحة ثلاث مرات فقام قاضي القضاة حسام الدين الغوري في نصرة العسجدي وأثنى عليه، وقال: أنا أحكم بأهليته لهذه الوظيفه، فدار بينه وبين ابن جماعة مقاولة فيها فحش، وانفضوا على ذلك. فأعلم الغوري طاجار الدوادار بأن القوم تعصبوا على العسجدي وأنه يحكم بأهليته، فبلغ ا!سلطان ذلك. فلما حضرا سأل السلطان عما جرى في المجلس من ابن جماعة والجاولي فتفاوضا وعارض كل منهما الآخر، فمال السلطان إلى قول ابن جماعة، ومنع العسجدي من التدريس. فشق ذلك على الجاولي وهم بعزل نفسه من نظر المارستان، فحذره الأمراء عاقبة ذلك. وفيها عمل جسر بالنيل على حكر ابن الأثير، وسببه أن الميل قوي على ناحية بولاق خارج القاهرة، وهدم جامع الخطيري حتى احتيج إلى تجديده، وحتى احتيج إلى أن رسم السلطان للسكان على شاطئ النيل بعمل الزرابي لجميع تلك الدور، وألا يؤخذ عليها حكر. فبنى صاحب كل دار زربية تجاه داره فلم يفد ذلك شيئاً. فكتب بإحضار مهندسي البلاد القبلية وبلاد الوجه البحري، فلما تكاملوا ركب السلطان النيل وهم معه، وكشف البحر. فاتفق الرأي على أن يحفر الرمل الذي بالجزيرة حتى يصير خليجاً يجري فيه الماء، ويعمل جسر في وسط النيل يكون سداً يتصل بالجزيرة، فإذا كانت زيادة النيل جرى الماء في الخليج الذي حفر، وكان قدامه سد عال يرد الماء إليه حتى يتراجع النيل عن سد القاهرة إلى بر ناحية منبابة، وعاد السلطان إلى القلعة. وخرجت البرد من الغد إلى الأعمال بإحضار الرجال للعمل صحبة المشدين، وطلبت الحجارون بأجعهم لقطع الحجارة من الجبل- وكانت تلك الحجارة تحمل إلى الساحل وتملأ بها المراكب، وتغرق المراكب وهي ملأنة بالحجارة حيث يعمل الجسر-. فلم يمض عشرة أيام حتى قدمت الرجال من النواح فتسلمهم الأمير آقبغا عبد الواحد والأمير برسبغا الحاجب. ورسم لوالي القاهرة ووالي مصر بتسخيرهم للعمل، فركبا وقبضا على عدة كثيرة منهم، وزادا في ذلك حتى صارت الناس تؤخذ من المساجد والجوامع في السحر، ومن الأسواق، فتستر الناس ببيوتهم خوفاً من السخرة.ووقع الاجتهاد في العمل، واشتد الاستحثاث فيه حتى إن الرجل كان يخر إلى الأرض وهو يعمل لعجزه عن الحركة، فتردم عليه الرمال، فيموت من ساعته. واتفق هذا لخلائق كثيرة جدا وآقبغا راكب في الحراقة يستعجل المراكب المشحونة بالحجارة، والسلطان ينزل إليهم ويباشرهم، ويغلظ على آقبغا ويحمله على السرعة واستنهاض العمل حتى أكمل في مدة شهرين. وغرق فيه اثنا عشر مركباً وسق كل مركب ألف أردب. وكانت عدة المراكب التي أشحنت بالحجارة المقطوعة من الجبل- ورميت في البحر حتى صار جسراً يمشي عليه ثلاثة وعشرين ألف مركب حجر، سوى ما عمل فيه من آلات الخشب والسرياقات والحلفاء ونحو ذلك.وحفر الخليج بالجزيرة، فلما زاد النيل جرى في الخليج الذي حفر، وتراجع الماء حتى قوي على بر منبابة وبر بولاق التكرور، فسر السلطان بذلك.وفيها استأذن الأمير ملكتمر الحجازي والأمير يلبغا اليحياوي السلطان في المسير إلى الإسكندرية بطيور السلطان الجوارح، ليتصيدا في البرية. فرسم للنشو بتجهيزهما، فخاف من دخولهما إلى الإسكندرية أن يبلغهما عنه من أعدائه ما إذا نقلاه للسلطان تغير عليه. فعرف النشو السلطان أن مراكب التجار قد وصلت، وأنه يحتاج إلى السفر حتى يأخذ ما عليها للديوان ويقوم أيضاً بخدمة الأميرين، فأذن له في السفر، فسافر من ليلته. وبدا للسلطان أن يبعث الأمير بشتاك بالطيور- ومعه الأمير قماري أمير شكار، والأمير ألطبغا المارديني- ويعوض يلبغا والحجازي بركوب النيل في عيد الشهيد، فسافر الأمراء الثلاثة. وكان عيد الشهيد بعد يومين، فركب يلبغا والحجازي المراكب في النيل للفرجة، وخرجت مغاني القاهرة ومصر بأسرها، وتهتكوا بما كان خافياً مستوراً من أنواع اللهو، وقد حشر الناس للفرجة من كل جهة. وألقى الأمراء للناس في مراكبهم من أنواع الأشربة والحلاوات وغيرها ما يتجاوز الوصف، فمرت ثلاث ليال بأيامها كان فيها من اللذات وأنواع المسرات ما لا يمكن شرحه.ولما قدم الأمراء بالطيور إلى ظاهر الإسكندرية أخرج النشو إلى لقائهم عامة أهلها بالعدد والآلات الحربية، وركب إليهم حتى عبروا المدينة، فكان يوماً مشهوداً. ثم خرجوا بعد يومين، وقد قدم النشو لهم من الأسمطة وأنواع القماش ما يليق بهم. وأخذ النشو في مصادرة أهل الإسكندرية، وطلب عشرة ألاف دينار من الصيارفة قرضاً في ذمته، وطلب من ثلاثة تجار عشرة ألاف دينار، ثم إنه غرم ابن الربعي المحتسب بها خمسة آلاف دينار، سوى ما ضرب عليه الحوطة من موجوده، وضربه ضرباً مبرحاً وسجنه، فمات بعد قليل في السجن، ثم عاد النشو إلى القاهرة.وقدم الخبر من ماردين بكثرة جمع الشيخ حسن الصغير وأولاد دمرداش، وأنهم على حركة لحرب طغاي بن سونتاي بديار بكر، فإذا بلغوا مرادهم منه عدوا الفرات إلى أخذ حلب.وفيها طلب الأمير طرغاي الطباخي واستقر في نيابة حلب عوضاً عن ألطنبغا.وفي يوم الثلاثاء ثامن عشرى شوال: قدم موسى بن مهنا طائعاً، وقدم عدة خيول، وورد صحبته طائفة من عرب البحرين بخيول قومت بمبلغ خمسمائة ألف وستين ألف درهم وقومت خيل موسى بخمسمائة ألف درهم، سوى ما جرت العادة به من الإنعام عليه، وأنعم عليه بعشرين آلف دينار أيضاً. وقومت من جهة أهل برقة بأربعمائة ألف درهم، وقومت مماليك وجواري قدم بها التجار بستمائة ألف درهم. وكانت جملة ذلك كله، ما عدا ما أنعم به على موسى بن مهنا ألفا ألف درهم وستون ألف درهم، منها مائة ألف دينار مصرية ونيف وعشرين ألف دينار، وأحيل بذلك على النشو.ولما كمل قصر يلبغا وقصر المارديني جاءا في أحسن هيئة، فإن السلطان كان ينزل إليهما بنفسه ويرتب عمارتهما. فعمل أساس قصر يلبغا أربعين ذراعاً وبسطه حصيراً واحداً، فجاء مصروفه أربعمائة ألف درهم. وكان جملة المصروف على هذا القصر أربعمائة ألف ألف وستين ألف درهم، من ذلك لازورد خاصة بمائة ألف درهم. فركب السلطان إليه يوم فراغه وأعجب به، وأنعم على يلبغا بتقدمة طرغاي الطباخي نائب حلب، وفيها عشرة أزواج بسط- منها زوج بسط حرير- وعدة أواني بلور وغيره، وعدة خيول، وجمال بخاتي. وتقدم السلطان إلى الأمير آقبغا عبد الواحد بعمل سماط في قصر يلبغا، فنزل إليه ونزل النشو أيضاً حتى تهيأ ذلك، وحضر الأمراء كلهم، فأكلوا وشربوا يومهم إلى العصر. ثم خلع السلطان على أحد عشر أميراً أحد عشر تشريفاً أطلس. وأركبوا الخيول بسروج الذهب، وخلع على بقية الأمراء ما بين خلع كاملة وأقبية، وأركبوا أيضاً الخيول المثمنة بسروج الذهب والفضة على قدر مراتبهم. وتولى السلطان تعبية ذلك بنفسه، فكان مهماً عظيماً: ذبح فيه ستمائة رأس من الغنم، وأربعون رأساً من البقر، وعشرون فرساً، وعمل فيه برسم المشروب ثلاثمائة قنطار من السكر.وفي يوم الإثنين سابع عشرى رمضان: هبت ريح سوداء معتمة بناحية الغربية، وأظلم الجو منها، وسقطت دور كثيرة. ثم سقط برد أسود مر الطعم، حاءت به الريح من نحو البحر حتى ملأ الطرقات، ووزنت منه واحدة فكانت مائة وثمانين درهماً، ووجد فيه واحدة على قدر النارنجة، وعلى قدر بيض النعام، وما دون ذلك إلى قدر البندقة. وكان الزرع قد قرب حصاده، فرمى سنبله، وحصد كثير منه من أصله، وهلكت منه أغنام كثيرة. ورؤيت شجرة جميز في غاية الكبر وقد سقط في وسطها برده على هيئة الرغيف وهي سواء- فشقتها نصفين كما يشق المنشار، ووجدت بقرة مطروحة قد قطع ظهرها ببردة شقته نصفين. وتلفت زروع ثمانية وعشرين بلداً، فجمع زرعها وحمل إلى السلطان مع فلاحيها، واستغاثوا بالسلطان، فرسم لمتولي الغربية أن يكشف تلك النواح ويحرر ما أصابتها الجائحة منها، ويحط خراجه عن الفلاحين، فامتثل ذلك.وفيه قدم البريد من قوص بأن السماء احمرت في شهر رمضان هذا حتى ظهرت النجوم متلونة، فكانت تحمر ساعة وتسود ساعة وتبيض ساعة، إلى أن طلع الفجر، فجاء مطر لم يعهد في تلك البلاد. وقدم البريد أيضاً بأنه هبت ريح بأسوان ألقت عامة البيوت وكثيراً من النخل، وهبت أيضاً بعرب قمولة، فألقت ألفين وخمسمائة نخلة مثمرة، وقدم بذلك محضر ثابت على قاضيها.وخرج ببلاد منفلوط فأر عظيم جداً فحصد الزرع حصداً، وأتلف جرون الغلال، بحيث كان يذهب ربع الجرن في ليلة واحدة. فصار الناس يبيتون بالمشاعل على طول الليل، وهم يقتلون الفأر ثم يتولى أمر النهار طائفة أخر وهم لا يفترون عن قتله، ثم يحمل ما قتل منه في شباك، ويحرق بالنار على بعد، وفيهم من يلقيه إلى النيل، فأفاموا مدة شهرين يحملون في الشباك كل يرم نو مائة حمل. وشوهد منه عجب: وهو أن جمعاً عظيماً من فيران بيض خرجوا حتى ملاوا الأرض، فخرج مقابلهم فيران سود، واصطفوا صفين في أرض مساحتها فدنان، ثم تصايحوا وحمل بعضهم على بعض واقتتلوا ساعة، وانكسرت الفيران السود، وتبعهم البيض يقتلونهم حتى مزقوهم في تلك الأراضي، وكان بمحضر عالم كبير من الناس فكتب بذلك إلى السلطان والأمراء، فانكسر للسلطان بناحية منفلوط بسبب الفأر نحو ستين ألف أردب فول.وفيها رفعت قصة إلى السلطان تتضمن أن الأمير ملكتمر الحجازي يركب النيل ومعه أرباب الملاهي في عدة من المماليك السلطانية، وأنهم يفعلون كل فاحشة ويأخذون حرم الناس. فاشتد غضب السلطان، وطلب الحجازي وأخرق به، وهدده بالقتل إن عاد يركب النيل، وأخرج السلطان ممن كان يعاشره من المماليك ستة وثلاثين رجلاً إلى البلاد الشامية على البريد من يومهم، وأخرج من الغد أربعين مملوكاً من أصحابه بسبب شربهم الخمر، وفيها تقدم السلطان إلى ولي القلعة ألا يمكن أميراً من النزول إلا بمرسوم، وأمر نقيب الجيش فدار على الأمراء كلهم وأعلمهم ألا ينزل أحد منهم من القلعة إلا بمرسوم السلطان، ومن نزل فلا يبيت إلا بالقلعة. وركب أمير مسعود الحاجب- ومعه والي القاهرة- وهدم مرامي النشاب التي بناها الأمراء لرمي النشاب خارج القاهرة، وطلب جميع صناع النشاب ومنعهم من عمل النشاب الميداني وبيعه لسائر الناس، وأمر بدكاكين البندقانيين فغلقت، ومنع من عمل أقواس البندق وبيعها، وقصد السلطان بذلك كف أسباب اللهو، فإنه كان يكره من يلعب ويلهو عن شغله وخدمته.وفيها شفع الأمير موسى بن مهنا في لؤلؤ وغيره من المصادرين، فرسم السلطان لشاد الدواوين بكتابة أسمائهم- وكانوا خمسة وثلاثين رجلاً، ومنهم قرموط وأولاد التاج، فأفرج عنهم، أما خلا قرموط وأولاد التاج.وفيها أنشأ الأمير أقبغا عبد الواحد مدرسة بجوار الجامع الأزهر، وكان موضعها دار الأمير ابن الحلي وألزم الصناع بالعمائر السلطانية أن يعملوا فيها يوماً من الأسبوع بغير أجرة، فكان يجتمع في كل أسبوع بها كل صانع بالقاهرة ومصر، ويعملون نهارهم. وحمل لها أقبغا جميع ما يحتاج إليه من عمائر السلطان، وأقام بها من مماليكه شادا لم ير أظلم منه، فعسف الصناع وضربهم.وفيها توقفت زيادة النيل عندما قرب الوفاء، ثم نقض، فارنفع سعر الغلال حتى بلغ القمح عشرين درهماً الأردب. ثم تراجع النيل ووفي ستة عشر ذراعاً، بعدما زاد ثلاثة أيام متوالية أربعة أذرع ونصف ذراع. وتلفت بسبب ذلك غلال كثيرة في الأجران، فإنه زاد زيادة متتابعة على حين غفلة. وكانت سنة شديدة، واتفق فيها من الأمطار والفأر والمصادرات وغير ذلك عدة محن.
|